الرئيسية » الذات » تطوير الذات » فلسفة الواقع

فلسفة الواقع

بواسطة عبدالرحمن مجدي
1585 المشاهدات
كلام فلسفة - خواطر فلسفية

المحتويات

1- ادراك الواقع

عزيزي سين.. هل تعرف الحقيقة؟.. عزيزتي صاد هل تعرفين الحقيقة؟ .. أعزائي جميعا هل منكم من يعرف الحقيقة؟.. عندما أدخلوا مجموعة من العميان الهنود على فيل كبير وطلبوا منهم أن يستكشفوه.. فالذي أمسك بنابه قال أنه ممسك بخنجر طويل.. والذي أمسك بساقه قال إنه جزع الشجرة.. والذي أمسك بخرطومه قال إنها أفعى غليظة.. والذي أمسك بذيله قال إنها جريدة نخل والذي تحسس جسده قال إنه الجدار.. ولكن عندما جلس العميان سويا وتبادلوا الأراء.. أدركوا أنهم كانوا في حضرة الفيل الكبير.. هكذا هي الحياة.. لا يملك فيها فرد وحيد كل الحقيقة.. كل يرى جزءا بوعيه ومن زاويته.. ولا تكتمل الصورة إلا برؤى الجميع.. فما الذي يمنع أحدنا أن يدرك الحقيقة كاملة؟.. هل هناك ما يحول بينه وبينها؟ هل هناك ما يخدعه و يزيفها له؟.. الإجابة نعم.. إنها المحولات.
 
المحولات.. وتعرف أيضا بالمرشحات.. هي محطات سبع.. يمر بها الواقع قبل أن يستقر في ذهن الإنسان.. محطات سبع تقع بين الواقع الفعلي وإدراكك له.. فتضيف إليه وتحذف منه.. تعظمه أو تقلل من شأنه مما يؤثر في النهاية على جودة هذا الإدراك.. وقد سميت بالمحولات لأنها تقوم بتحويل الصورة الحقيقية للأحداث إلى صورة مغايرة قليلا أو كثيرا قبل أن يستقبلها عقلك وتستقر داخله.. وليست المحولات شرا على إطلاقها.. فكما أنها تنقص حصيلتنا من المعلومات الكاملة مما يدفعنا كثيرا إلى القفز على الأحكام غير الصحيحة.. فإن التشويه الذي تحدثه لإدراكنا للحياة قد يمثل أحيانا أداة إبداعية تسمح لنا بالابتكار والخروج عن المألوف.. وهذه المحولات هي:

2- الحدود العصبية

أولا: الحدود العصبية
من المعروف أن إدراكنا للعالم يكون من خلال اعضاء الحس الخمسة.. بيد أن هذه الأعضاء ليست مطلقة القدرة.. فالعين مثلا لا ترى سوى العالم الكائن بين الطول الموجي للون الأحمر والطول الموجي للون البنفسجي.. وخارج هذه الحدود لا تدركه عين الإنسان.. والأذن تسمع فقط الصوت البالغة قوته ما بين 20 إلى 20000 وحدة صوت.. وخارج هذه الحدود لا تدركه أذن الإنسان.. وهكذا اللمس والشم والتذوق.. لكل منهم حدود لا يتجاوزها.. يعني ذلك أن هناك عوالم تعيش معنا على هذا الكوكب تؤثر على واقعنا قطعا ولكننا نعجز عن إدراكها..
 
وعلى ذكر الحواس تجدر بي الإشارة إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت .. الذي استفاق يوما ليجد وهو في منتصف عمره أن نصف المعتقدات التي في رأسه قد تسرب إليه أثناء مرحلة الصبا وقتما كان لا يملك من أدوات النضج العقلي ما يجعله يميز بين ما هو خطأ وما هو صواب.. بينما النصف الآخر من أفكاره قد عبر إليه عن طريق حواسه التي قد تخطئ.. فالعين قد ترى ما لم يحدث والأذن قد تسمع ما لم يكن.. ورأى أن السبيل الوحيد لفرز صندوق التفاح هو إفراغه بالكلية.. ومراجعة التفاحات الواحدة تلو الأخرى.. فالصالحة تعود إلى الصندوق والمعطوبة تستبعد.. هكذا فعل ديكارت تماما مع أفكاره ومعتقداته التي في رأسه ليؤسس نظريته الرائدة في الشك المنهجي.. وخرج علينا يوما ليطلق قولته الشهيرة (على الإنسان أن يشك في كل شئ مرة واحده في العمر على الأقل).. وكما قال الإمام ابو حامد الغزالي من قبله (الشك أولى مراتب اليقين).. هكذا تعرف يا عزيزي أن حواسك في أحسن أحوالها لا تملك سوى أن تنقل إليك واقعا منقوصا.

3- أنماط التمثيل

ثانيا: أنماط التمثيل
لكل منا حاسة سائدة تسيطر على إدراكه للحياة.. تخيل أنك تذهب برفقة صديقين إلى الشاطئ.. ثم طلب منكم وصف المشهد.. فستجد نفسك تتحدث بشكل أساسي عن زرقة البحر الخلابة وملابس المصطافين الزاهية وبياض السحب الناصع.. بينما يصف صديقك الأول زقزقة الطيور العابرة وصوت الأمواج المتلاطمة وصيحات الأطفال اللاعبين.. ثم تجد صديقك الآخر يتحدث عن دفء الشمس الحاني ولطف الرمال الناعمة واللسعات المنعشة لرذاذ البحر .. نعم إنها أنماط التمثيل.. فمنا من يدرك العالم بعينيه لأنه من النمط البصري.. ومنا من يدركه بأذنيه لأنه من النمط السمعي.. ومنا من يدركه بلمسه وشمه وتذوقه لأنه من النمط الحسي.. هذا يجعلك عند إدراكك الواقع أن تركز على تفاصيل دون غيرها.. مما يفقد إدراكك صفة الكمال.

4- الثقافة

ثالثا: الثقافة
وهي مجموعة الأفكار والمفاهيم لدى المجتمع الذي تنتمي إليه وتؤثر في نظرتك للأشياء.. فمثلا لو جلست أنت وصديقك الأمريكي مع شخص يتحدث إليكما واضعا ساقا على ساق.. فستجد أنك تخرج من هذه المقابلة وإنطباعك عن هذا الرجل أنه متعال، يفتقد الكياسة والأدب.. بينما يراه صديقك الأمريكي رجلا عصريا معتدا بذاته وأناقته.. فمن منكما على صواب؟

5- التجارب الشخصية

رابعا: التجارب الشخصية
إن كل تجربة لك في الحياة لاسيما تلك التي وقعت في المراحل الأولى من عمرك.. تنطبع في ذاكرتك لتؤثر على نظرتك وتقييمك لكل ما يليها من تجارب مماثلة أو شبيهة.. بل أنها تتشارك مع غيرها من تجارب حياتك لتعطي لك الخصوصية والتفرد في إدراك الحياة.. فما تراه أنت عيبا يراه غيرك ميزة ويراه ثالث غير مهم وهكذا.. فلكل منكم خزانة تجاربه الخاصة التى تؤثر على نمط استجاباته وأحكامه على الأحداث.

6- السياق

خامسا: السياق
وأعني بالسياق الأجواء العامة والملابسات التى تحيط بالحدث وتوجه عقلك خلسة نحو استقبال الأمر بكيفية معينة.. نتذكر جميعا المشهد السينمائي الشهير للفنان نجيب الريحاني عندما انحنى احتراما وتبجيلا لذلك الرجل الأنيق في ثيابه الفاخرة ظنا منه أنه صاحب القصر.. ليكتشف بعدها أنه ليس إلا الموظف المختص برعاية الكلب.. وهذا الخطأ حقيقة يسأل عنه العقل العاطفي لدى الإنسان والذي يسقط دائما في فخ النمطية وضلالات العادة.

7- النوايا والحالة المزاجية

سادسا: النوايا والحالة المزاجية
فالطيبون لا يرون إلا الخير.. والخبيثون لا يرون إلا الشرور.. والمتفائلون لا يرون إلا الإيجاب .. والمتشائمون لا يرون إلا السلب.. كما تلعب التوجهات الذهنية والإنحيازات العاطفية دورا في تركيز المرء على جوانب من الواقع دون غيرها.. يقول المثل المصري المعروف (مرآة الحب عمياء).. وحقيقة في كل تلك الأحوال هنالك تجاوز عن الإدراك الأمثل للحياة.. فللحياة دوما وجهان.. ضاحك وحزين.. ولكن هيهات أن يدرك المرء منفردا كل التفاصيل.

8- التعميم

سابعا: التعميم
وهو أحد أشهر ألاعيب العقل العاطفي وضلالات العادة لدى الإنسان.. حين يأخذ الفرد نتيجة تجربة بعينها ويعممها على جميع التجارب الأخرى رغم اختلافها مما يشوه من إدراكه لها.. والتعميم قد يفيد في محاولات التكيف مع العالم والتعلم السريع.. بينما هو كارثة عندما يكون تعميما خاطئا لا سيما في حالة عدم الإنفتاح على تجارب جديدة.
 
إذن محولات سبعة تتداخل بينك وبين الحقيقة لتصنع لك أطارك الفكري والبرادايم الخاص بك في إدراك الحياة.. ومن الطريف يا عزيزي عندما تتأمل هذا القصور الذي يعتري الرؤية الفردية ستجد أنه ضرورة مجتمعية تكرس لمفهومين يبدوان متناقضين.. الأول هو وجوب إختلاف الفرد وحقه الكامل فيه.. فكلما تعددت الرؤى واختلفت كلما سنحت الفرصة لتكوين رؤية عامة هي الأقرب للصواب.. المفهوم الآخر هو الأهمية البالغة لتشاور الأفراد فيما بينهم.. إن الخريطة ليست الأرض.. كانت المقولة التى أطلقها عالم الرياضيات البولندي ألفرد كورزبسكي.. وتعني أنك لا تعرف الحقيقة بل تعرف فقط رؤيتك عنها.. فلا يملك فرد وحيد أو طائفة وحيدة كل الحقيقة..
 
لا تغرنك يا صديقي معرفتك فتنغلق.. بل اعترف بقصورها وأقبلها.. ثم ابحث واسأل ودقق وشارك وراقب واطلع قبل أن تتشبث.. إن إيمانا أبوه الشك.. خير من إيمان لقيط.. وليست الدعوة أن تتبع الآخرين كيفما كانوا.. وإنما أن تستفيد من رؤاهم وأنت تكون وجهة نظرك الخاصة.. إن إقصاء رؤى الآخرين ومعاداتها ليس من مصلحة أحد في شئ.. فهكذا تسقط الدكتاتوريات.. بإمكانك بدءا من الآن إضافة أو تعديل المحولات العقلية التي تنظر بها إلى الواقع.. أي بإمكانك تغيير الطريقة التي تستخدم بها عقليتك.. وهنا يبرز دور البرمجة اللغوية العصبية.. إن الحقيقة بعيدة مع الفرد.. قريبة مع المجموعة.. إنها سنة الكون التى سنها الخالق العليم.. فلو امتلك كل منا الحقيقة كاملة بمفرده.. لتفرق الناس وأنعزلوا وشعر كل فرد بكفايته.. وقد خلق الله الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا.. وجعل الأمر شورى بينهم.. هنا تعرف قيمة المشاركة.
 
.
.
هل ساعدك هذا المقال؟ .. شاركه الآن!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقك !