الرئيسية » قصص » قصص جميلة » اعمال صالحة جداً !! – مصطفى محمود

اعمال صالحة جداً !! – مصطفى محمود

بواسطة عبدالرحمن مجدي
1608 المشاهدات
اعمال صالحة - مصطفى محمود

أعمال صالحة جداً . . !!
..
التاجر اللبناني الغني جداً لم يصدق أن دينا زوجته تموت ، و أن ما أصيبت به ورم سرطاني في المخ .. و هو سبب الصداع و الزغللة و الدوخة التي كانت تشكو منها في الأيام الأخيرة ، و كان يظن أنها أعراض عادية بسبب الشرب و السهر .

و حينما فاجأه الطبيب بصورة الأشعة المقطعية للمخ ، و تقرير الطبيب المختص ، وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الموت لأول مرة .
و برغم أنه تعود أن يعيش سنوات في بيروت بين الموت و الدمار .. إلا أنه كان ينظر إلى الموت على أنه خبر أو نشرة دورية تصدرها إذاعة الكتائب .. مجرد طلقات رصاص لا تمس جلده .

و حينما جمع أمواله و هاجر مع زوجته إلى البرازيل ليعيش بعيداً عن بيروت و ميليشياتها ، ظن أنه خرج من دائرة الموت إلى الأبد .. و أنه وصل إلى بر السلام و الأمان و لم يعد له فيما تبقى من عمره ما يخافه أو يخشاه .

كل ما تبقى من المشكلة هو أين أن يودِع ملايينه ، و كيف ينفقها على سهراته و سفرياته ؟ .. و أي قصر يشتري .. و في أي حي يسكن .. و في أي تجارة يباشر استثماراته ؟ .

و مادامت الجميلة دينا معه ” 19 سنة .. ملكة جمال .. عينان زرقاوان كماء البحر .. شعر أشقر مثل إكليل من ذهب مضفور .. جميلة شفافة بللورية كآلهة من آلهة الأولمب .. عصفور مغرد ، ينشر السعادة حيثما حل ، عشيقة عمرِهِ .. و زوجته و حبيبته ” مادامت معه فلا شيء يهم .
و لكن كل شيء تغير فجأة .. دينا تموت أمامه و هو لا يستطيع أن يفعل شيئاً رغم ملايينه .

كان يكلم نفسه و يسأل أعوامه الستين عن حل .. يسأل الحكمة و الخبرة .. فلا ترد عليه إلا دموع جامدة متحجرة لا تنزل .
ألا يمكن استئصال الورم بالجراحة .. ؟

يقول له الطبيب :
♦ أن المشرط الذي سوف يستأصل الورم سوف يستأصل الحياة كلها معه .
ألا توجد عقاقير .. ألا توجد أعشاب .. ألا يوجد نوع من الإشعاع .. ألا يوجد دواء سحري و لو تكلف الملاين ؟
يقول له الطبيب .. أن الورم قد انتشر و سوف يغزو قريباً مراكز السمع و البصر و الكلام و الذاكرة و التوازن و الحركة .. و لن يبقى من المرأة شيئاً تعرفه أو شيء يعرفك .. و قد تدركها الرحمة فيحدث نزيف يؤدي إلى غيبوبة و موت ينقذها و ينقذك من هذه الآلام .
ينقذني أنا .. يقول الرجل في صوت مذهول .. فيجيب الطبيب بصوت ثلجي :
♦ ينقذك من رؤيتها في صورة كريهة لم تتعودها .. إن الحب لا يتحمل هذه المناظر .
و يهرول صاحبنا يطلب استشارات من هنا و من هناك .. و يجمع الأطباء في كونسولتو ..

و يتصل بنيويورك و سان فرنسيسكو و شيكاجو و واشنجتون و بون و برلين و باريس ..
و يرسل صورة الأشعة المقطعية بالفاكس و يأتي الرد من الجميع .. لا أمل .. لا يمكن التدخل الجراحي .. و لا حل سوى انتظار معجزة .
و يحدث ما توقع الطبيب البرازيلي .. و يبدأ نزيف حاد في المخ في منتصف الليل .. يؤدي إلى غيبوبة عميقة .. ثم توقف كامل لكل نشاط في المخ .. و يتوقف رسّام المخ الكهربائي عن إصدار لأي ذبذبات .. لا شيء .. سِوى خط أملس .
لقد ماتت دينا .. رسام المخ يقول أنها ماتت .. و الرجل يصرخ كالمجنون .. مستحيل .. مستحيل .. لابد من عمل شيء .

فيقول الدكتور البرازيلي بنفس النبرة الثلجية :
♦ ممكن تشغيل مضخة التنفس الصناعي لضخ الهواء في الرئتين .. و ممكن تشغيل القلب إلكترونياً .. و ممكن الإحتفاظ بأنسجتها رطبة و حيّة .
فيصرخ الرجل :
♦♦ أرجوك .. أرجوك .. شغل المضخة .
فيرد الدكتور البرازيلي بنفس النبرة الثلجية :
♦ و لكنها لن تكون حيّة .. ستكون مجرد صورة .. مجرد تمثال .. لا يرى و لا يسمع و لا يتكلم و لا يتحرك و لا يحس .. مجرد أعين تنظر و لا ترى ، و آذان مفتوحة و لا تسمع .. مجرد تحنيط .

فيصرخ الرجل .. أرجوك .. أرجوك .. شغل المضخة .. و شغل جميع الأجهزة .. و احتفظ لي بها كما هي أرجوك .
فيقول الطبيب مشفقاً :
♦ و لكنها عملية مكلفة ..
فيجيب صاحبنا في صراخ ..
♦♦ لا يهم .
♦ و إلى متى .. يسأل الطبيب .
♦♦ إلى الأبد .. إلى أن أموت بجوارها ..

و يبكي و يمص الطبيب شفتيه .. و يعمد إلى تشغيل الأجهزة .. ثم يترك الغرفة و يمضي لحاله .. بينما يركع صاحبنا إلى جوار جسم زوجته .. يتحسسها .. و يُقبِلُها .. و يتشممها .. و يهمس في أذنها .. ثم يصرخ .. دينا .. أين أنت .. ردي عليَّ .. أجيبيني .. ثم يتحول إلى طفل .. و يأخذ يدها ليقبلها و يرَبِّت هامِساً :
♦♦ أنا أعلم أني وغد و نذل و لا أستحقك .. و قد خنتك مرات مع صديقاتك .. و لكن سامحيني و عودي إليّ و لن أخونك بعدها أبداً .. لن أخونك أبداً يا حبيبتي لن أخونك أبداً .
ثم يسكت و يلقي برأسه بين كفَيّه .. و يدير بصره الزائغ في الغرفة ..
و لا شيء يُسمَع سوى صوت مضخة التنفس و الأوكسجين الذي يدخل و يخرج ..
و زجاجات المحاليل المعلقة التي تقطر السوائل في عروقها قطرة قطرة لتحتفظ بطراوة و رطوبة الحياة .. الحياة شكلاً و ليس حقيقةً .. وهم الحياة الذي يُباع بألوف الدولارات كل ليلة .
و تدخل الممرضة و الطبيب في روتين فحص للأجهزة ثم يخرجان .

** ** **
و تستمر الأيام و الليالي يجرجر بعضها في بَلادَة .
و تبرد العواطف و تتجمد المشاعر و يتحول عاشقنا اللبناني إلى زائر متحف جالس أمام أحد تماثيل متحف الشمع .
و يتأكد بالتدريج أنها ماتت .. و أنها لن تعود .. و أنه لا أمل .. و أنه يكلم شيئاً لا إمرأة .. يكلم موضوعاً لا إنسان .
و يدخل اليأس حتى نخاع عظامه .. و يستسلم .. و يميل على الطبيب البرازيلي ليقول له :

♦♦ تستطيع الليلة أن تنزع الأجهزة و لكن في غيابي .. لأني لن أحتمل هذا المنظر .. و سيخيل إلي أني أقتلها .. و تستطيع أن تعدها للدفن .. و قد جهزت لها مقبرة رخامية جميلة في خارج البلدة ..
و يطمئنه الطبيب بأنه سيقوم بالواجب .. و ينصحه بالإبتعاد هذين اليومين حتى لا يتأثر بهذه الطقوس المؤلمة .. فيشكره صاحبنا و يضغط على يده .
و لكن الطبيب كان يفكر في أشياء مختلفة تماماً .. و في طقوس أخرى لا يعلم عنها صاحبنا اللبناني شيئاً .

كان الطبيب يرى في الميتة الشابة مجموعة أعضاء بشرية صالحة للبيع .. فالكليتان سليمتان و كذلك الكبد و البنكرياس و الأمعاء و القلب و الرئتان ، و أيضاً قرنيات العين ، و أيضاً الغدة النخامية و الغدة الكظرية ..
و هي أعضاء بسعر السوق تصل إلى عدة ملاين من الدولارات و الزبون موجود ..
و نتائج تحليل عينات النسيج جاءت إيجابية .. و هي تصلح لعدد من المرضى مطلوب لهم زرع كلية ، و زرع كبد ، و زرع رئتين ، و زرع أمعاء .. و هناك أكثر من تلكس تحت يده يطلبها فوراً بالطائرة إلى كولومبيا و سويسرا و إيطاليا و نيويورك و اليابان و الفلبين .
و كل المطلوب هو تقطيع الأعضاء و تعبئتها مع الثلج في أكياس بلاستيك .. و إرسالها فوراً بالطائرة .

و آخر برقية مطلوب فيها زرع عظام .. و هو يستطيع أن يصنع بودرة عظام أيضاً .
واضح أنه لن يبقى من الشابة الجميلة شيء .. و أنها ستتحول كلها إلى منافع .. و لا تبقى إلا مشكلة واحدة .. هي البديل الذي سيدفن في المقبرة الرخامية الجميلة خارج البلدة .
و كانت المشكلة محلولة بالنسبة للطبيب الذكي .. فهناك فتاة في ثلاجة المستشفى من أسبوعين قتيلة و مُغتصَبة و لم يظهر لها أهل ..
و ابتسم الطبيب و هو يهمس :
♦ سوف يظهر لها عَم يتقدم لاستلامها و تخليص الإجراءات الضرورية .. ثم تُعَد بسرعة لتوضع في التابوت الجميل اللائق بزوجة الملييونير .. لتدفن في المكان الجدير بهذا الحب الخالد .

** ** **
و في الطائرة الكونكورد المسافرة إلى لندن و في صالون بالدرجة الأولى .. كان يجلس الطبيب مع زميله و كان يفتح زجاجة شمبانيا إحتفالاً بالصفقة الدسمة .
و كان الطبيب يفرك يده مسروراً و هو يجرع كأس الشمبانيا .

♦ أنا أسعد ما أكون اليوم فقد قمت بأكبر قسط من الأعمال الصالحة .. فقد أنقذت من الموت سبعة من المرضى عن طريق هذه الأعضاء التي شحنتها بالطيران المستعجل ..
هناك عميان سوف تزرع لهم قرنيات و يبصرون .. و هناك ابن بارون كولومبيا الذي ييموت بنزيف الأمعاء سوف تزرع له أمعاء .. و هناك الذي سيموت بسرطان الكبد و سوف يزرع له كبد جديد سليم .. ، و هناك حالة قلب و رئتين ميئوس منهما سوف يستبدلان بقلب و رئتين سليمتين .. هذا يوم عيد .. و زغاريد .. و تهاني .. و سعادة سوف تعم الجميع .. بسببي و بفضلي .

..♦ و هناك ثلاثة ملاين دولار ستدخل جيبك .
♦ مقابل أعمال فاضلة وحياتك .. سرقات عصرية مفيدة ..
..♦ و لكنها سرقات .
♦ نحن سرقنا الموتى في سبيل الأحياء .. نحن لم نؤذ أحداً .. و لم نقتل أحداً .
..♦ و لكنا نفعلها أحياناً يا صاحبي حينما لا نجد بضاعة حاضرة .. و من يدري .
♦ من يدري ماذا ؟
..♦ من يدري بحكاية الأشعة المقطعية التي أجريتها على دماغ الفتاة دينا .. هل كانت الأشعة بها سرطان في صورتها فعلاً أم كانت من درج المكتب كالعادة .

♦ لا إطمئن .. هي صورتها بالتأكيد .. بدليل نزيف المخ الذي حدث .
..♦ أنت دكتور عظيم يا رودريجو و تستطيع أن تُحدِث نزيفاً بالمخ كما تريد .
و جرع رودريجو ما تبقى في زجاجة الشمبانيا دفعة واحدة و قال و هو يترنح :
♦ بل كان النزيف هذه المرة بسبب السرطان في مخها .. صدقني .. صدقني .. أنت تعرف كم أنا رجل أمين في المهنة .
..♦ أما المهنة يا صاحبي فأنا أعرف أنك أمين جداً فيها .. و أمين أكثر في تلبية طلبات الزبائن الذين يموتون في انتظار عضو يُزرع .

♦ صدقني هم أولى بالشفعة و الرحمة .. فهم يموتون يا صاحبي .. ألم تقل أنهم يموتون .
..♦ و الآخرون يموتون أيضاً يا رودريجو .. إن ذاكرتك أصبحت ضعيفة .
إننا في قارب واحد للأسف معاً .. أليس كذلك ؟!
♦ و حسبنا أنه قارب إنقاذ .. قارب إسعاف سريع مزود بأعظم مبتكرات العصر .
..♦ ألم تفكر في صاحبنا اللبناني .. العاشق المفتون .
♦ بل فكرت فيه كثيراً و تتبعت حكايته و سألت عنه و عن ملايينه و عرفت أنه تاجر رؤوس .
..♦ تاجر رؤوس ؟؟!!
♦ تاجر رؤوس في الحرب الأهلية اللبنانية .. عنده عصابة من القناصة .. تقتل المارة في الشوارع من على رؤوس العمارات .. لحساب هذه الطائفة أو تلك .. و في النهاية يقبض الثمن بالدولار .

..♦ شيء عجيب .
♦ لا شيء عجيب في زماننا .. ألم يتبق شيئاً في الزجاجة ؟
و كان يقلب زجاجة الشمبانيا فلا يجد فيها قطرة .
..♦ لقد شربتها كلها يا صاحبي .
♦ شربتها كلها .. نعم .. لقد شربتها كلها .
و غمغم في نفسه و هو يقول :
♦ و العجيب أنه كان يبكي بحرقة .

..♦ من ؟!
♦ صاحبك تاجر الرؤوس .
..♦ إننا نحب رغم كل شيء .. و نبكي .. ألا تبكي أحياناً في حب مارينا ؟ .
♦ نعم .. و مع ذلك فقد أجهضتها أخيراً .. و أخذت الجنين المجهَض لأستعمله في زرع مخ لإنقاذ بارثلوميو من الشلل الرعاش .. و قد نجحت العملية نجاحاً باهراً .. و عاد يلعب الكرة .. تصور .. تصور ! .
..♦ صحيح .. صحيح .. أنت عبقري .
♦ ألم أقل لك أنه أصبح لنا رصيد عظيم من الأعمال الصالحة .
..♦ أعمال صالحة جداً .
و فجأة اتسعت عيناه من الذعر .
..♦ يا إلهي أتسمع .. أتشعر بهذه الرجة .. ياللفظاعة .
♦ نعم إن الطائرة تهتز بشدة .. إنها تتمزق .. يا الله .

** ** **
و لم تصل الطائرة الكونكورد هذه المرة إلى مطار لندن .
و إنما وصلت برقية استغاثة .. أعقبها صمت .. ثم جاءت الأخبار بسقوط الطائرة ممزقة على جبال الشاطئ الإنجليزي .
و قد تناثرت أعضاء الركاب على مساحة واسعة .. عضو هنا .. و عضو هناك على بُعد عدة كيلو مترات .
..
من كتاب : الذين ضحكوا حتى البكاء
المصدر: مصطفي محمود

هل ساعدك هذا المقال ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقك !