“
ثمة ضوء خفيف ينتشر في السماء .. يبدد ظلمة الليل رويدا .. رويدا
لا يبدو أن الشمس ستسطع اليوم .. و لا يبدو أنها ستشرق في قلبها أبدا ..
أعمدة النور تومض في خفوت و موسيقى جنائزية تتردد في خلفية افكارها .. خطواتها المترددة الخائفة تعكس خفقان قلبها الملتاع .. تسرع قليلا خشية أن يفوتها موعدهما .. تعبر الطريق تلو الآخر و هي تتساءل ماذا لو انتهت حياتها الآن و في هذه اللحظة بسيارة طائشة ..
ما الفارق .. ستنتهي الحياة بعد ساعتين على الأكثر .. ستحلق طائرته بعيدا .. و ستبقى هي عالقة هنا .. تحت ركام المفروض و الواجب و الخضوع و سماع الكلام ..
لن تهرب معه الى آخر العالم .. لأنها لم تستطع أن تهرب من قيود الخوف الذي يقيدها .. و يقض مضجعها .. و يزيد من إحساس السقوط المؤلم بمعدتها المنقبضة ..
هربت اليوم فقط ..
متأخر جدا احساسها بضرورة المقاومة و جدوى الحروب ..
وصلت الى مكانهما المتفق عليه .. تلك البقعة النائية على ضفاف النيل .. ظلال الأشجار خبأت وجودها .. خلو المكان طمأنها ..
استرخت ملامح وجهها قليلا .. أراحت شعرها الداكن الجميل من ربطة الأسر الذي عقصته بها ..
كانت مستمتعة بالبرودة القارصة التي تأكل أرنبة أنفها .. و تتجمد على خدودها الوردية .. تلهيها تلك البرودة .. عن الخواء الذي ينهش روحها و عاصفة الثلوج التي تضرب بعنف في أركان نفسها ..
اضطربت فجأة حينما سمعت صوت حركة قريبة ..
ثم تبينت مركب صغير يرسو حيث تراه و لا يراها من فيه .. راقبت أنثى ممتلئة بعض الشئ، تلبس جلباب مزركش الألوان .. باهت بعض الشئ .. تزيح المنديل المثلث الذي يربط شعرها و تطلقه في لحظة حرية تظن أنها تحظى بها وحدها في هذا الوقت المبكر .. تبدأ في اخراج بعض الأرغفة من تحت بعض الاغطية .. قطعة جبن بيضاء ناصعة و بعض الطماطم الحمراء الحلوة .. تلحظ رجل يرتدى جلبابه الرمادى الواسع على مهل .. يخرج يديه من الأكمام ببطء المستيقظ لتوه بعد نومة طويلة مريحة ..
يتلفت حوله ليتأكد أنهما اسيقظا وحدهما .. يتجه نحوها .. يقبل خدها الوردى .. بإمكانها أن ترى من مكانها .. الشغف الذي لمع في عينيها و ابتسامة السعادة الصافية التي على وجهها الرقيق .. شعرت بلفحة على وجهها و هي ترقبهما .. كيف يلمس شعرها المسترخي .. و يتخذ مقعدا مريحا .. ثم يجلس ملتصقا بها ليتناولا الفطور على مهل ..
هل أرادت أكثر من هذا ..
في هذه اللحظة .. تستطيع أن تقول بمنتهى الصدق أنها لم ترد في حياتها قدر هذه اللحظة .. لم تتمنى أكثر من الأمان .. السكينة .. و الدفء في صحبته .. بعض أرغفة و الجبن الأبيض و عشة صغيرة أو مركب بسيط تكفيها ..
لكنها لم تكفي الآخرين الذي يعيشون بنظراتهم و كلماتهم و مصمصة شفاههم تحت سقف بيت أهلها .. لم يكن ليكفيهم الا قطع الذهب تدفئ رسغها .. و بيت ممتلئ بقطع الأثاث الكبيرة لتملأ فراغها .. و لحم كل يوم على مائدتها .. و رأس فارغ من النقاش .. لا يعارض .. و لا يناقش .. و بالتأكيد لا يجاهر بآرائه و يعرضها للخطر ..
انتبهت على رائحة أنفاسه العطرة .. استدارت بكليتها .. لتجد وجهه الرفيع الشاحب ينظر لها كأنما ليس ثمة سواها في الوجود في هذه اللحظة ..
ثمة سحر في طلته .. في حلته الواسعة قليلا .. و أصابعه الطويلة .. وجهه الشاحب قليلا و سواد عينيه ..
مثل أول مرة .. كأنه جاء يحمل هموم الفقراء و المظلومين .. و الحق و العدل على أكتافه ..
آثار الحبر على أصابعه التي لا تكف عن الكتابة و المجاهرة في كل ورقة تقع تحت يده .. و كل صحيفة تطولها مقالاته ..
وجدت إحساسا بقدميها بصعوبة لتنتقل جانبا قليلا .. و تفسح له المجال ليجلس ..
ابتسم ابتسامة خفيفة .. قال لها و هو يجلس ..
” لم وجهك الشاحب؟”
ابتسمت بشحوب أكبر و في همس ساخر ردت ..
” سأفتقد أسئلتك العبقرية “
قبضت يده على يدها بقوة .. كأنما يطلب منها ألا تسحبها مقدما .. لم تسحبها ..
أدار كفها ليقابل كفه في اشتياق .. و تخلل أصابعها الوردية الباردة بأصابعه الطويلة الدافئة .. ضمها بقوة .. كأنما تلخصت ذاته و كيانه و أنفاسه المتلاحقة في كف يده و أصابعه المشتاقة .. و كأنما ذابت نفسها الخائفة في أمان لمسته ..
كأنما القدر أراد لها أن تحصل على لحظة .. لحظتها .. التي حال الخوف بينها و بين الحصول عليها العمر كله ..
انقبضت معدتها مجددا .. و انقبضت أصابعها .. كأنما تذكرت الفراق الذي أوشك ..
شعر بخوف أصابعها .. فطمأنها بضغطة خفيفة ..
“لن أنساك أبدا .. انتِ قطعة من روحي .. سأتركها هنا .. في المكان الذي أحبه على الأكثر و عذبني على الأكثر ..”
لم تجد لسانا ترد به ..
“ربما كتب على أن أترك أوطاني كلها اليوم .. طاردني بصاصينها و مخبريها و لاحسي أحذية سلطتها ..
ربما كتب على أن أفارق شوارعها و حواريها .. و عينيك و ابتسامتك ..
و كفك …في يوم واحد”
ابتلعت ريقها بصعوبة و سألت السؤال الذي تعرف اجابته مقدما ..
“ألابد أن تذهب ..؟ “
ابتسم في يأس و سخرية ..
“اني ذاهب ذاهب لا شك .. لن يتركوني طويلا ..
الفرق الوحيد .. هل سأذهب لسجنهم و سجانيهم .. أم لسجن نفسي التي ستموت وحيدة .. في بعد أوطاني “
ظل ينظر لها طويلا .. يتملى من الوطن الذي لم يطله .. و أمانه الذي لم ينله ..
سيتركها هي الأخرى لسجانيها .. و سيترك الشوارع و الحارات لسجانيها .. سيتجرع وحده قلة حيلته و عجزه .. سيتجرع الظلم الذي يجلد قلبه مع كل حبسة جديدة .. و كل ورقة تمزق .. و كل قلم يقصف .. و شاشة تُطفأ ..
مع كل لمعة في عينيها تنطفئ .. و كل بسمة على شفتيها تموت .. و كل انقباضة في أصابعها لن تجد من يطمأنها بعد الآن ..
مر الوقت في سكون .. الا من همس الأصابع ..
انتبه للضوء الذي غمر الأنحاء .. فقال على مهل .. كأنما ينقل لها خبر وفاته ..
“حان وقت الذهاب ..”
انتفضت كأنما فاجأها رحيله .. من جديد ..
فجعته انتفاضتها .. نظر اليها طويلا ..
حاول أن يتمالك نفسه .. فأخرج من جيبه موبايل صغير و سماعة سوداء ..
“ما رأيك في أغنية أخيرة .. Adele .. ؟”
أومأت برأسها في خفوت ..
انسابت الموسيقى الهادئة .. و الصوت العميق يتغنى في شجن ..
” دعني أصورك في هذا الضوء الخافت ..
ربما كانت هذ المرة .. هي الأخيرة التي سنكون فيها كما كنا دائما .. قبل أن ندرك
أننا حزانى لأننا كبرنا .. “
انسابت الموسيقى و الكلمات توحد روحاهما .. و تخط كلمات النهاية ..
*Adele Song – When we were young
هند حنفي
.
اقرأ أيضاً: قصص جميلة جدا عن الحب
اقرأ أيضاً: قصة جميلة جدا ومؤثرة
اقرأ أيضاً: قصة حب ناجحة واقعية
اقرأ أيضاً: قصص جميلة جدا
.
هل ساعدك هذا المقال ؟