أنا لا أعرفك لكني أعرف أنك تشعر بالحزن. أنا كمان أشعر بالحزن. تيجي نجيب شاورما؟
– – – – – – – – – –
يسكن عمارتنا قطة أبيض في أسود. كل الجيران يعرفونها، بعضهم يحبها ويضع لها الطعام، وبعضهم لا يجرؤ على إعلان كراهيته لها. القطة تسكن عمارتنا منذ خمس سنوات، حتى أصبحت أدرى بالبيت من معظم الجيران. كلما خرجت من باب البيت صحبتني لباب العمارة وتصرفت مثل الكلاب، تنونو في حزن كأني لن أعود، وتستقبلني بالتهليل والفرحة كإني عدت سالمًا من الحرب. كلما طهت أمي شيئًا له رائحة نفاذة، قعدت القطة أمام باب البيت، وأعلنت عن حقها غير المشروط في الطعام. لا نأكل أبدًا قبل أن تأكل القطة.
تختار القطة أزواجها بعناية. صحيح من قطط الشوارع، لكنها لا تقبل بأي قط. لابد أن يكون نظيفًا متعلمًا ومن عائلة. كل فترة تحبل وتضع هررها الوليدة أمام أحد الأبواب. الجميع يحترم معجزة الأمومة. سوف تجد أطباقًا من الطعام واللبن تخرج مخصوصًا لها من كل بيت.
أمس سمعنا صوت قرآن من الشقة المجاورة. حالة وفاة. العزاء للسيدات بالشقة، وللرجال في مدخل العمارة. هذا أول عزاء أحضره في مدخل عمارتي. احسست بشيء مراوغ غريب وأنا أمارس طقوس العزاء في مكان أعبره كل يوم ولا أفكر في الموت. كنت جالسًا شاردًا حين لمحت القطة تعبر بين الأقدام. تشعر بالهلع من تدفق كل هؤلاء الغرباء. ثم تلاقت أعيننا. أخيرًا وجه مألوف. اتسعت حدقة عينيها الخضراء الجميلة كإنها تقول لي هيا نقاوم الغزاة معًا وندافع عن البيت. قمت وسلمت على الناس، وسمحت لها بالدخول معي للبيت.
أمي في العزاء ولا أعرف ماذا تأكل القطة. اتجهت للمطبخ والقطة تتبعني، ترسل نظرها يمينًا وشمالًا في البيت. قلت لها معلش البيت مش قد المقام. قالت ناو ناو. قلت لها العفو. ثم وضعت لها الطعام على الأرض، فجلست تأكل ولا كأن هناك شيئًا، ونسيت مسألة الغزاة تمامًا.
وقفت أراقبها وقد هدأ بالي. فكرت في شيء عميق أقوله لها فلم أجد، فمكثت أفكر في الأشياء.
– – – – – – – – – –
مقهى صغير في شارع هادي تسقفه الأشجار، كنت بروحه كل يوم تقريبًا بسبب انعزاله وكراسيه المريحة، والموسيقى خفيضة الصوت في الخلفية، الي تخليك تضيق عينك متسائلًا “هو فيه موسيقى ولا أنا بيتهيألي؟” وبعدين تضيق عينك أكتر متسائلًا “أنا بضيق عيني ليه لما أركز مع الصوت؟”، ومنيو محدودة جدًا لا تحتوي تقريبًا غير شاي وقهوة، باعتبار باقي الأشياء بتاعت العيال السيكي ميكي.
كل يوم كنت بلاقي تقريبًا نفس الناس. شاب بيذاكر والسماعات في ودانه. بنت بتكتب حاجات في مفكرة شخصية. راجل قاعد مبيعملش حاجة وأحيانًا بيغمض عينه. كل واحد قاعد لواحده. لا أذكر أبدًا إني شوفت إتنين في هذا المقهى. المكان صغير ولو اتنين اتكلموا فالجميع هيشارك بدون رغبة في السماع. المقهى بشكل ما كان ملجأ للخلوة ومراجعة النفس والتأمل للداخل. ربما أصبح سرًا بينا لا نخبر عنه الآخرين. نتقابل كل يوم صباحًا ونهز راسنا لبعض هزة خفيفة تعترف بوجود الآخر وبإنه نايس تو سي يو بدون كلمة واحدة. لو غاب حد ننظر لبعض. أين الفتى-الذي-يذاكر؟ أين الفتاة-صاحبة-المفكرة؟ أو الرجل-الذي-لا-يفعل-شيئًا؟
أحد الأيام رن موبايل البنت، فانزعجنا كلنا لتلويث حرمة صمت المعبد، ولما ردت بسرعة تابعنا كلنا المحادثة. اتضح أن احدى صديقاتها يسأل عنها. الفتاة-صاحبة-المفكرة قالت إنها في منطقة كذا كذا، وبدا إن الصاحبة تسأل فين لرغبتها تقعد معاها شوية. ساد التوجس بين رهبان المعبد. دونت يو دير ريفيل هذا السر المقدس يا الفتاة-صاحبة-المفكرة، وإلا سيقوم الرجل-الذي-لا-يفعل-شيئًا باستلال سيفه وتقديمك قربانًا للآلهة. سنشهد أنا والفتى-الذي-يذاكر المراسم، وسنضع مفكرتك فوق قبرك.
لكن مرت الأمور على خير. الفتاة-صاحبة-المفكرة راوغت صاحبتها ولم تفشِ السر. ساد السلام. تبادلنا نظرات الجنود التي نجت من الحرب. عادت السيوف لمكمنها. رفرف الحمام. رست السفن. وكل التعبيرات الأخرى التي يفكر بها واحد مش وراه حاجة في مقهى منعزل في آخر العالم.
– – – – – – – – – –
آخر مرة كنت في طيارة كان جنبي ست عجوز طيبة أول مرة تركب طيارة، تنظر لكل شيء بعين الشك من حيث إنه مستحيل جسم عملاق زي الطيارة يطير فعلًا. لابد إن فيه خدعة ما وكلنا متواطئون لإخفاء المؤامرة عنها. كانت بتتعامل معي بحميمية مفاجأة مجاوزة للسياق باعتبارها جدة عجوز مُطاعة الأوامر في بيتها إلي هو بيت العيلة، وفي عينها نظرة حازمة مستمرة حتى كأنها توشك أن تأمرني أخلص الأكل وممشيش حافي على البلاط البارد.
في الكرسيين إلي قدامنا شاب أجنبي أشقر وجنبه فتاة أجنبية سمراء البشرة، واضح إنهم كابل، لإنهم بيتصرفوا ككابل، ولإني تلصصت عليهم حتى أتأكد إنهم كابل، ولإنها ريحت راسها على كتفه مما أثار استياء جارتي العجوز من قلة الحياء في الأماكن العامة في قلب السماء، وتخيلتها تلعن البابليك ديسبلاي أوف أفيكشنز مثل كل جيلها، فتظاهرت بإني أرفض هذه المسخرة من كل قلبي، وأنا كاذب، لكني لا أحب أن أسقط من نظر جدتي.
على الطرف الآخر من الطرقة فتاة جميلة من النوع الي بيسبب وجع رقبة للي قاعدين حواليها بنهاية الرحلة، لإن صنف الرجالة كله عينه زايغة، ولكن الجالس جوارها شاب أصلع بيكتب حاجة شديدة الأهمية على اللابتوب على حجره ولا يلتفت ليها، ولا لغيرها، وربما لو سقطت الطائرة نفسها مش هياخد باله.
فجأة خطر ليا إن الناس الي حواليا تمثل عينة تقليدية متنوعة مناسبة لمسلسل تقع فيه الطيارة وإحنا بس الي ننجو، على جزيرة مهجورة بوسط المحيط، ونمر بمغامرات سرقة الموز من القرود، وإعادة اكتشاف النار، واختيار أول واحد مننا ناكله، وفي حالة كان المسلسل كوميدي رومانسي خفيف أتجوز أنا البنت التي تتسبب في وجع رقبة الرجال، بمباركة الجدة العجوز الغاضبة من تقلب الحياة السريعة، واستغرقت في كل هذه الخيالات بقلق شديد من أول مطب هوائي، تسلل مني للجدة العجوز التي أيقنت أن النهاية قريبة، وإنها هتموت مع شاب أجنبي أشقر وفتاة سمراء بتتمرقع، وشاب مصري يتلصص على الآخرين.
– – – – – – – – – –
في أحد فترات حياتي، كنت ساكن مع أصدقائي في شقة عُزاب في حي شعبي بالقاهرة، وفي أحد أيام الشتاء البارد أردت أخذ شاور دافئ، وكنت لوحدي في الشقة، دخلت الحمام خلعت هدومي وفتحت المية، إكتشفت إن السخان مقفول، والسخان في المطبخ. قررت الخروج من الحمام، لا مؤاخذة، عاريًا، لفتح السخان، مخاطرًا في حالة عودة أحد أصدقائي فجأة أن يجد مفاجأة غير سارة بانتظاره.
الجو برد، وأنا، لا مؤاخذة، مبلول، وليس عندي استعداد لتبديد الفوطة، لأن شقة العزاب لا تمد المحتاج بالمؤنة، لهذا خرجت من الحمام بخطوات صغيرة جدًا، أقول لنفسي وأكرر “أنا مش سقعان، أنا مش سقعان.” رافضًا الإعتراف بالحقيقة، لإني لو ابتديت أرتعش، سوف أنهار، لا مؤاخذة، عاريًا في الطرقة بين المطبخ والحمام.
وصلت للسخان أخيرًا، وفتحته بيد ترتجف، وبدأت رحلة العودة نحو الحمام. خطوة صغيرة. أنا مش سقعان. خطوة صغيرة. أنا مش سقعان. مرت دقايق، كما الساعات في ذهني، حتى وصلت الشاور الساخن، وأرتميت في حضنه، كأنه حضن الحبيبة.
في المقابل لما كنت في الجيش، لأسباب يطول شرحها، قضت كتيبتي فترة طويلة من الليل في الصحراء، حيث البرد برد بجد، من بتاع أفلام، إلي الرياح بتعمل فيه صوت وشششششششش، وعلى الرغم من عدم وجود الأمل في سخان يصلح الحال، إلا إن وجود أصدقائي حولي، خلى الموضوع محتمل، مش بس بمشاركة البودي هيت، لا مؤاخذة، ولكن بمشاركة المعاناة، والشقاء على الكل فل، وحيث إن من واجبي التنظير في نهاية بوست طويل، علشان متحسش إنك خرجت من عندي إيدك فاضية، خليني أقولك عندما تشعر بالبرد المعنوي، شاركه مع غيرك، لو معندكش سخان مجازي.
– – – – – – – – – –
.
اقرأ أيضاً: حكمة اليوم مضحكة
اقرأ أيضاً: حكم مضحكة ومفيدة
اقرأ أيضاً: نكت للمتزوجين فقط
اقرأ أيضاً: نكت مضحكة جدا جدا جدا تموت من الضحك
.
هل ساعدك هذا المقال؟ .. شاركه الآن!