الرئيسية » الذات » تطوير الذات » تجربتي مع الاكتئاب الحاد والشفاء منه

تجربتي مع الاكتئاب الحاد والشفاء منه

بواسطة عبدالرحمن مجدي
5514 المشاهدات
علاج الاكتئاب هو الحب
كيف خرجت من غيابة الجب..
##
 
قبل أي شيء.. أود أن أوضح أنني من الأعداء اللدودين لفكرة إخراج المارد الكامن في داخلك.. وتحضير التفاؤل من عدم كما تحضّر الأرواح.. ولم أؤمن يوما أن معرفة مصائب الآخرين تقلل من شعوري بمصائبي, أو أنه يمكنني أن أتجاهل ألم ضرسي الملتهب لأن لدي ثلاثين ضرسا آخر بحالة جيدة.. ولم تقنعني الدعوات الفضفاضة والمطاطة حول أهمية العودة إلى الله كحل للاكتئاب, دون أي توضيح إضافي عن ماهية تلك العودة وكيف لها أن تساعدك.. وأقول هذا طبعا دون أن يمس ذلك من إيماني شيئا..
 
بعد هذه المقدمة الضرورية.. أكتب هنا اليوم عن تجربتي الشخصية البسيطة في الخروج من بئر الاكتئاب الذي جلست فيه طويلا.. وكوني لست متخصصا بعلم النفس.. فبالتالي لا يمكن اعتبار ما أكتبه هنا حلا علميا أو وصفة سحرية.. بقدر ما هو تجربة شخصية قد تفيد شخصا تشابه ظروفه ظروفي, وقد لا تفيده.. لكنني أجد من الضروري نشرها.. من أجل نفسي أولا قبل أي شيء آخر..
 
موجة الاكتئاب هذه بدأت منذ عامين تقريبا – وبالطبع سبقتها موجات أخرى- لكن هذه كانت الأعنف والأطول.. ولتجنب الوقوع في فخ الاستعطاف والشخصنة.. فلن أذكر تفاصيل شخصية عما أدى بي للدخول في هذه الأزمة.. لكن يمكنني القول بشكل عام, أن الأمر بدأ بخسارة شبيهة بالخسارات التي يتعرض لها الناس في حياتهم.. الخسارة كانت كبيرة.. وغادرة نوعا ما.. لكنها لم تكن كافية لتحطيمي.. قلت لنفسي أن الإنسان يجب عليه أن يستمر.. ومكسب هنا يوازي خسارة هناك.. وما إلى ذلك من الجمل التي نواسي بها أنفسنا لنكمل المسيرة.. ومضيت في طريقي فعلا.. لكن مع حدوث مشكلة أخرى.. اتضح لي كم النزيف الداخلي الذي تسببت به خسارتي الأولى.. كانت مناعتي ضد الألم قد تضررت كثيرا.. وتنامى الغضب في داخلي بطريقة لم يكن لي أن أتخيلها.. لتتداعى بعدها الأمور كأحجار الدومينو.. بحيث أن أصغر أمر يحدث كان يخرجني عن طوري تماما.. وكما المخدر.. بدأت أسير في الحياة بعيون زائغة.. أنزف صبري وأعصابي يوما بعد يوم.. حتى أتت تلك اللحظة الفارقة.. حين قصمت قشة صغيرة ظهر بعيري.. ووجدتني أجلس صامتا على الأرض.. أحدق بكل بلاهة ولا مبالاة في مفاصل حياتي وهي تنهار مفصلا تلو الآخر.. فاقدا الرغبة حتى في إنقاذ ما يمكن إنقاذه..
 
التأثيرات النفسية طبعا كانت عميقة جدا.. عزلة وانعزال.. غضب لا نهائي.. شعور طاغ بالمظلومية.. استعجال ليوم القيامة ووضع موازين القسط.. كره عميق للبشرية جمعاء.. وغيرها من الأفكار التي ملأتني تماما بحيث لم أستطع التفكير في أي شيء آخر.. وعلى الرغم من مظهري الخارجي الهادئ.. إلا أن آلاف الأصوات والأسئلة كانت تتردد بشكل دائم في داخلي.. مقللة حجم تواصلي مع الناس إلى الحد الأدنى.. بل ووصلت الأمور في النهاية إلى أنني أصبحت حتى عاجزا عن إجراء حوار لأكثر من دقيقة مع أيا كان.. وفي أحيان.. عاجز عن سماع كلمة واحدة.. وإذا ما أصر الشخص المقابل على قولها أنفجر في وجهه.. وصارت الحياة ثقيلة جدا وكأنني أسبح داخل بركة لزجة من القطران.. ناهيك طبعا عن المحاولات الدائمة للهروب من العالم عبر النوم نهارا والسهر ليلا.. والانعزال ما أمكن ذلك..
 
وإن جاز لي أن أصف ما حدث لي وقتها.. فسأقول أنني كنت فعليا كمن سقط في بئر عميق.. لكن لا يراه الآخرون.. بئر مظلم عميق ذو جدران اسطوانية ملساء.. ويستحيل علي الخروج منه.. لا فائدة أصلا من محاولة تسلق الجدران.. وهذا كان أصعب ما يواجهني كشخص مكتئب.. أن الآخرين لا يرون ذلك البئر.. يقولون لك بكل براءة.. انهض.. تحرك.. اترك كل شيء وراء ظهرك.. لكن أنت تعرف أنك مسجون داخل ذلك البئر.. وصحيح أن عضلاتك سليمة وتستطيع الحركة.. لكن لا فائدة من المحاولة.. وهذه هي المعضلة.. ففي حين يظن الناس أنه بإمكانك الخروج.. إلا أنك تعرف انه لا يمكنك.. دافعك للحياة قد مات.. هذا الشيء اللا مرئي بداخلك قد مات.. ولا يمكنك التحكم به.. حتى لو ظن كل من حولك بعكس ذلك..
 
وتوالت الأيام والليالي.. وأنا في ضيق شديد.. منتظرا شيئا لا أعرف ما هو.. كنت أعرف ما لا أريد.. لكنني لا أعرف ماذا أريد.. فقط انتظار أجوف واستعجال لطوي الأيام بدون أي رؤية عما أنتظره من الغد.. وتأثرت عائلتي أيما تأثر بهذا الأمر.. لكنني كنت في عمى تام عن ذلك.. أفكر بحزني فقط دون أي سبيل للخروج.. وكانت القاصمة عندما طالعت ورقة واجب مدرسي يختص بالأدب كانت تحله ابنتي.. كانت المعلمة قد طلبت منها أن تكتب مقدمة لقصة رعب.. وكانت المقدمة التي كتبتها عن فتاة في الثانية عشرة من عمرها.. تجلس في سريرها ليلا فتسمع صوت الباب يفتح.. وتسمع خطوات أبيها.. فتبدأ بالارتعاش في سريرها وهي تفكر في أي نسخة سترى من أبيها.. ومع أنني لم أكن بذلك السوء الذي كانه ذلك الأب المتخيل.. إلا أن مجرد انزياح تفكيرها نحو فكرة كهذه أرعبني كثيرا..
 
أمضيت تلك الليلة جالسا على شرفة منزلي.. أدخن وأفكر فيما يحدث.. وحدث أن كنت أتصفح شيئا ما.. فشاهدت فيديو لطيف لرب أسرة يقوم بملاعبة أطفاله وزوجته وهم في غاية السعادة.. فيديو عادي جدا.. وشاهدت مثله الكثير من قبل.. لكن لسبب ما أعدت الفيديو أكثر من مرة.. وبدأت أسأل نفسي.. ما الذي يمنعني فعليا من أن أكون مثل هذا الأب؟ من سلبني أنا وأطفالي الحق في أن نعيش لحظات مرحة وممتعة كهذه؟ وهنا فقط تغير كل شيء.. وبدأت الأجوبة تتدفق في داخل رأسي كنهر..
 
لأنني اكتشفت حينها أن الاكتئاب – في جوهره – ما هو إلا انتصار لقيم الشر على قيم الخير.. بمعنى أنني حين أحلت حياتي وحياة من حولي إلى توتر وقلق.. فانا فعليا قد أقررت أو استسلمت لحقيقة أن أولئك الذين آذوني قد انتصروا.. وتمكنوا فعليا ليس فقط من تكبيدي تلك الخسارة الكبيرة.. بل سلبوني حقي الأساسي في أن أعيش حياة مليئة بالمتعة والفرح.. وهو حق ما كان لي أن أفرط به أبدا.. لا في حق نفسي ولا في حق عائلتي.. حتى لو خسرت كل شيء.. هذا جنون مطبق..
 
لم تتغير قناعاتي بشأن أولئك الذين سمموا حياتي.. لا زلت أمقتهم بنفس المقدار.. لكنني اقتنعت أن الخسارات تحدث.. وهذا مفهوم.. ومن أجل ذلك خلق الله الحزن.. والمكاسب تحدث ومن أجل ذلك خلق الفرح.. هذه هي المشاعر التي نعبر بها عن أنفسنا في المكسب والخسارة.. فرح وحزن.. لكن مهما كانت الخسارة كبيرة ودائمة.. فالحزن يجب أن يظل شعورا مؤقتا.. أي محدد بوقت.. أما أن أمد خط الحزن على استقامته كأنه شيء أبدي لا نهائي.. وأحوله إلى ملاءة أغطي حياتي بها بدعوى أنني تعرضت للأذى, فهذا انتصار لأعدائي عليّ.. وسلب لحقي المقدس في أن أكون سعيدا.. وحق من حولي بالطبع في أن يعيشوا أيامهم بسعادة.. وهذه هي أهم حقيقة يجب أن يعيها الإنسان عن ذاته.. السعادة ليست ترفا.. إنها حق.. وحق مقدس.. هذا هو باب الخروج..
 
الشيء الآخر الذي تداعى في رأسي في تلك الليلة.. هو أنني اكتشفت أنني فعلا مررت بتجارب سيئة.. لكن العالم السيء الذي كنت أتكئ عليه أثناء اكتئابي.. لم يكن شيئا حقيقيا بقدر ما هو تصور شخصي.. وهذا تأصيل مهم للغاية.. بمعنى أنني اكتشفت أن العالم ليس كتلة واحدة جامدة.. ليس حقيقة مجردة لا جدال فيها.. كالشمس التي نراها جميعا تشرق في الصباح وتغيب في المساء.. لا.. العالم هو تصورنا عن العالم.. فالعالم الذي يراه الطبيب.. ليس هو العالم الذي يراه عامل التنظيف.. وإن كانا يعملان في ذات المستشفى.. المدينة التي يراها الغني مختلفة عن المدينة التي يراها الفقير.. الله الذي رآه ابن تيمية مختلف عن الله الذي رآه ابن الفارض.. فالمفاهيم في النهاية حتى لأشياء مادية, ما هي تصورات شخصية لا أكثر..
 
من هنا.. اتضح لي أن العالم السيء الذي نراه ليس في الحقيقة إلا صنيع أيدينا.. هو تضخيم جائر لتجاربنا.. بمعنى أننا قد نمر فعلا بتجربة سيئة.. لكن عندما نملأ حوائطنا على مواقع التواصل (كانعكاس لعوالمنا) بقصص حزينة مشابهة.. فنحن هنا – وبشكل غير واعي – نشكل العالم الذي نعيش فيه.. نختار ما يغيظنا في هذا العالم ونضعه أمامنا كصورة وحيدة ونهائية للعالم.. ونقدّمه كحقيقة لا جدال فيها.. وكأننا – بلا وعي أيضا – نحاول أن نبرر اكتئابنا بإلقاء اللوم على العالم كمكان سيء.. نحاول أن نقول للآخرين.. نحن لسنا مكتئبين لأننا نود ذلك.. لكن لأن العالم من حولنا يدعو لذلك.. أنظروا كم هو كئيب وحقير هذا العالم.. ناسين أو غير واعين أننا نحن من اخترنا أن نرى العالم من هذه الزاوية..
 
وهنا قررت أن أغير فعلا العالم الذي أراه.. لن يكون مليئا بالورود والموسيقى والشوكولا وشعر الغزل.. لكنه لن يكون أيضا تجميعا لكل قصص الإحباط والموت والقهر البشري في مكان واحد.. قررت أن أخلق نظرة متوازنة نحو العالم.. بل ومائلة قليلا أو كثيرا نحو الفرح..
 
أمر آخر جاب ذهني في تلك الليلة هو أن السكون يضخّم الأحزان.. بمعنى أن الضربة التي يتلقاها الإنسان وهو جالس في مكانه تؤلمه أكثر بكثير مما لو تلقاها وهو يركض مثلا.. السعي في الحياة وراء هدف ما والركض من شأنه فعلا أن يخفف وقع معيقاتنا علينا.. لو كان لدينا هدف ما.. فسنتقبل كل أذى في سبيله بمعنويات أعلى.. لأننا كبشر مخلوقون من ماء.. والماء إذا جرى طهر.. وإذا ركد أسن.. أي أصبح آسنا وفاسدا.. فجريان أرواحنا من شأنه فعلا أن يغسلها ويطهرها.. وقررت العودة لممارسة نشاطاتي بالاستيقاظ مبكرا.. تفادي النوم في وسط النهار.. المشي.. ممارسة الرياضة.. أي شيء من شأنه أن يحرك الماء الراكد في داخلي..
 
من الأمور التي يمكن أيضا الحديث عنها هنا.. أن أهم عوارض الاكتئاب ومضاعفاته في آن واحد.. هي أن يفقد الإنسان قدرته ورغبته في الاستمتاع باللذات الحسية.. كالطعام والجنس والموسيقى والخ.. الاكتئاب ينزع منك القدرة على الاستمتاع بهذه الأشياء التي خلقت أصلا لمتعتك.. ويعطيك شعور زائف بالتعالي عليها.. وكأنها أمور صغيرة وتافهة مقارنة بما تمر به.. من أجل ذلك.. أفضل ما يمكن فعله لدى الخروج من الاكتئاب هو العودة لممارسة تلك اللذات والاستمتاع بها حتى لو كان بالإجبار والتمثيل في بداية الأمر.. يجب إعادة تفعيل أزرار الإحساس باللذة داخل ذواتنا.. دهشتنا لدى رؤية شيء جميل.. فرحتنا باقتناء شجرة صغيرة.. استمتاعنا بوجبة من شرائح لحم العجل.. الاستماع لأغنية جميلة أثناء القيادة ليلا.. التسوق بلا هدف محدد وشراء تلك البشاكير المنمنمة الملونة والتحف الخشبية الصغيرة.. تلك “الأشياء” أهم بكثير من “المفاهيم” التي نعظمها زورا وبهتانا.. لأننا ما لم نفرح كالأطفال فلن نتمكن أبدا من إكمال مسيرتنا كبالغين..
 
بقي أن أقول.. أن أهم شيء في وصف الاكتئاب بأنه بئر.. هو أنه من الصعب جدا الخروج منه بلا مساعدة.. من الصعب على إنسان أن يخرج من بئر ما لم يمد له أحدا يدا أو حبلا صغيرا على الأقل.. لا بد أن يكون هنالك في حياتك شخص تفرحه رؤية ابتسامتك مرة أخرى.. وجود هذا الشخص هو شيء أساسي وضروري في مرحلة الشفاء.. لأن الشفاء من الاكتئاب لا يكون أبدا دفعة واحدة.. إخراج كل هذا الغضب لا يكون دفعة واحدة.. والشفاء ليس محطة يقطعها الإنسان وينتهي منها.. وليست فكرة يضعها الإنسان في بنك عقله ثم يعيش على فوائدها.. لا.. الشفاء من الاكتئاب معركة يومية.. على الأقل حتى يشفى ذلك الجزء غير المرئي في دواخلنا.. ونستطيع أن نكون أنفسنا مرة أخرى..
 
في النهاية.. هذه تجربتي الشخصية.. وهذه هي القناعات والأفكار التي انتشلتني مما كنت فيه.. وأحيانا أتساءل.. بما أنني كنت أعرف بعض هذه الأفكار مسبقا.. فلماذا استغرقت كل هذا الوقت للإيمان بجدواها؟ فيرد صوت ما في داخلي.. ويقول أننا في أحيان كثيرة لا نؤمن بالفكرة في ذات اللحظة التي نسمعها فيها.. تكون موجودة وقابعة في أدمغتنا.. لكن شيئا ما يمنعنا من الإيمان بها رغم وجاهتها.. يكون الأمر أشبه بقطعة معدنية تحاول الاستقرار في مكانها.. لكن شيئا ما خفيا يمنعها من ذلك.. وفي لحظة ما.. يختفي ذلك المانع لتسقط الفكرة بكل ثقلها في المكان المخصص لها.. من أجل ذلك.. كتبت هذا المقال..
وشكرا..
 
.
.
هل ساعدم هذا المقال؟ .. شاركه الآن!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقك !