الرُمَّانة
أحد أكبر الخدع التي علّمتنا إياها الروايات (أو الأفلام) هي خدعة النهاية.. في أي رواية، يتعاطف العالم والظروف والشخوص مع البطل لصنع لحظة فرح أو حزن ختامية… وفي لحظة النهاية تلك، يتجمدّ الزمن لتبقى النهاية ثابتة وأبديّة..
في الحياة، الموضوع مختلف نوعاً ما.. الزمن لا يتجمّد بعد لحظات الفرح والحزن.. لذلك لا يوجد نهايات سعيدة أو حزينة.. كل لحظة حزن قوي تعقبها أيام تخفف حدّتها.. وربما حدث سعيد.. ولحظات الفرح تمرّ أيضا لتعقبها أيام صعبة.. لتصبح كل نهاية بداية لشيء جديد..
لذلك من الخطأ الكبير أن نعامل الحياة بمنطق الروايات والنهايات السعيدة.. ونعيش ننتظر نهايتنا السعيدة أو نتجمد عند لحظة حزينة.. قصة حب جميلة توجت بزواج سعيد قد تنتهي خلال سنوات بالطلاق.. فشل دراسي مرّ قد يتوج بمسار ناجح في الحياة العملية.. الأمثلة كثيرة والحكمة واحدة.. لا طعم حلو ثابت ولا طعم مرّ ثابت..
لذلك توقع ما لا يقل عن عشرة لحظات مريعة في حياتك.. تشعر فيها أنك لا تساوي شيئا.. ويقابلها عشرة لحظات سعادة ونجاح ترتكز عليها وتتذكرها.. وبينهما أيام من العمل والكفاح والملل واللعب واللهو واللا شيء.. فافرح متى أتيح ذلك.. وإبك متى وجب ذلك.. وبينهما إحلم وإعمل وتبسّم بأسى وإسخر من نفسك ولا تأخذ الحياة بجديّة زائدة.. فعندما تحين النهاية الحقيقية لن يكون بمقدورك التعليق..
ومتى أتيح لك الوقت.. أحضر رمّانة.. قسّمها إلى أربعة أجزاء.. ثم إبدأ بأكل جزء منها بدون أن تزيل القشور البيضاء التي تغلف حبّات الرمّان.. لن يكون الطعم حلواً تماماً ولا مرّاً تماماً.. عوانٌ بين ذلك.. هذا الطعم بالتحديد هو طعم الحياة.. أي طعم غير ذلك هو زائف ومؤقت..
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
لعلّ واحد من أكثر التصوّرات ضبابية وتشوّها في عقولنا، هو تصوّرنا عن السعادة..
جوهر هذا التصوُّر المشوه يكمن، في أننا وفِي اللا وعي الكامن عميقا في أرواحنا.. ننظر إلى السعادة كمفهوم مادي.. وكأنها قطعة أرض بعيدة نرغب في الوصول إليها وتملّكها.. بيت يمكن لنا أن نبنيه بحيث لا يمكن للحزن أن يدخله.. نقطة على طريق.. متى ما تجاوزناها بسياراتنا لا يمكن للحزن أن يصلنا..
هذا التصوُّر الخاطئ هو بالضبط ما يجعلنا في حالة سفر دائم باتجاه تلك النقطة الخيالية .. ولتبرير حالة السفر هذه، تجدنا دائما نضع معرفات مادية لتحمي هذا التصور الهش الخاطئ.. سأكون سعيدا عندما أتخرّج.. عندما أتزوج.. عندما أمتلك بيتا.. عندما يكبر أطفالي.. عندما أنشئ عملي الخاص.. وعندما وعندما وعندما.. إلى أن يصل الإنسان إلى حالة يؤجل فيها كل ابتساماته في انتظار لحظة لن تجيء..
نقض هذا التصوُّر يكون بإدراك أن الإنسان لن يصل أبدا إلى نقطة لا يحزن بعدها.. هذا السفر المتخيل هو سفر عبثي.. لأنه حتى لو توافرت كل الماديات التي نظن أنها أسباب للسعادة، سيداهمك الحزن.. بأي طريقة كانت.. وبسبب أو بدون سبب.. لأن السعادة لم تكن أبدا بيتا بقواعد راسخة.. هي طيف.. خيوط دخان في الهواء.. تفاعل غير متزن.. يظهر ويختفي بسرعة.. لحظات يسرقها الإنسان من زمانه في كلّ يوم.. ويستمتع بها ثم تمضي كأن لم تكن..
ان استمتعت بوجبة ساخنة حصلت على السعادة.. ان رافقت فتاة جميلة حصلت على السعادة.. ملابس جديدة.. نتيجة جيدة في امتحان.. ركعتان في الليل.. بل وفراش وثير حتى تتقلب فيه كقطّ.. هذه هي السعادة.. السعادة شيء يومي ولحظي وآني.. يحدث الآن ويحدث هنا! قد لا يدوم سوى ساعات أو دقائق.. لكن هذه هي السعادة في النهاية.. تفاعل غير متزن.. نستمتع به ما بقي..
طبعا، قد يقول قائل أن الدنيا دار ضنك وأن السعادة في الآخرة.. وهذا صحيح فقط إذا ما تكلّمنا عن السعادة المطلقة.. لكن بما أننا الآن على هذه الأرض.. ويوجد بعض السعادة هنا.. فلا يوجد ما يمنع أنه بين حزن وحزن.. يمكننا الاستمتاع قليلا..
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
هل ساعدك هذا المقال؟ .. شاركه الآن!